خارطة العقل في الدماغ كخارطة الأرض , ربما غطى الوهم منها كما يغطي الماء
من الأرض , وكانت الحقيقة في العقل كاليابسة في خريطة الأرض . وأتحداك
قارئي العزيز أن تدعي أن الوهم لا وجود له في عقلك
كلمة قرأتها لتشرشل حكيم الإنجليز , أفادتني كثيراً ..
وأستوقفتني أكثر .. تردد صداها في دماغي طويلاً , ولا أدعي زوراً إن قلت :
إنها حركت قطعاً من الأحجار بعقلي , وغيرت بعض الأشياء من أماكنها بدماغي
. قال تشرشل : نفعتني كلمة سمعتها من شيخ هرم مسن حضرته الوفاة ونحن بين
يديه , إذ قال لنا : ها أنذا تنتهي حياتي وقد وجدت أن أغلب المخاوف التي
كنت أخشاها إنما كانت اوهام . خارطة العقل في الدماغ كخارطة الأرض , ربما
غطى الوهم منها كما يغطي الماء من الأرض , وكانت الحقيقة في العقل
كاليابسة في خريطة الأرض . وأتحداك قارئي العزيز أن تدعي أن الوهم لا وجود
له في عقلك .. أو أن الوهم لا يعرفك أو تعرفه .. كلا .. لو تأملنا في
الانسان نجد أنه يسعى للبحث عن : الرغبة , واللذة , والمتعة , والراحة ,
والهدوء والاستقرار , والأمان , والمكانة .. ربما كانت هذي أكثر الأشياء
التي يلهث المرء تفتيشا عنها , وسعيا وراء تملكها والحصول عليها لأطول وقت
ممكن .. وهنا يجئ الوهم .. وهو كيف الوصول لهذه المرغوبات الجميلة والحصول
على هذه المطلوبات الطبيعية , تتعدد طرقنا للوصول الى هذه الاشياء وتبدأ
رحلتنا مع الوهم . أحدهم بحث عنها في عالم المال والاعمال , والاخر طلبها
في أحضان المرأة , وثالث فتش عنها في التحايل والكذب , وآخر رأى ان الغش
والخداع طريق مختصر يوصله لها و ورابع جعل الدين مطية للوصول اليها ,
وخامس ظن أن المنصب والجاه طريق لها .. تتباين وتتعدد الطرق والعادات
والافكار والافعال التي ندمنها وتتغلغل في دهاليز عقولنا وتنغرس في جدران
هذا العقل وتقف حاجزا على بوابته تلون تصرفاتنا ومواقفنا بألوانها . بل
ربما وجهت حياتنا وغيرت بوصلتنا وحرفت مسارنا وربما لاكتنا ومضغتنا وصارت
تقودنا وتدير دفة المسيرة لحياتنا .. خذ مثالا لهذا : طفل نشأ على أن
الحياة سهلة , وكل شئ فيها قريب المنال ورباه الدلال على النعومة والليونة
والرخاوة , رجل تعود على الكذب وأعتقد أن الزيف يقدمه للناس هو مزيد من
الذكاء والفهم , رجل يذهب لقبر ميت ويطلب منه الحاجات أليس هذا وهماً ؟
رجل يظن قيمته في سيارته أليس هذا وهماً ؟ امرأة تدس إلى ساحر دراهمها
ليعود بقلب الرجل إليها أليس وهماً ؟ رجل يظن الخنوع والمهانة تقرب منه
حاجاته والشجاعة وقول الحق يقطع عنه رزقه أليس هذا وهماً ؟ فتاة تظن
الحياة كلها حب ! والكون ليس الا عشق أليس هذا وهماً ؟ شاب تعاطى المخدرات
وظن اللذة فيها ؟ وآ خر سافر وسافر بظنه أن نهاية تاريخ المتعة والأنس في
الأ سفار .. والأمثلة لا تنتهي .. كنت ومازلت أفكر كثيرا في شئ لم أصل بعد
فيه إلى موقف أو رأي .. اللحظة الراهنة التي نعيشها هل نستغرقها ونمتص كل
ما فيها من راحة وأنس وننسى كل شئ سواها ؟ أم العقل والمنطق يقول عش
المعاناة في هذه اللحظة الراهنة واقفز فوقها وتألم الآن لترتاح مستقبلا..
! وأخشى من وجود الوهم في النتيجة التي سأصل إليها لاختفائه واختبائه في
أدغال الدماغ . كم من التصرفات والمواقف والأفكار استمتنا عليها في زمن
نضحك حتى نستلقي على أنفسنا بعد مرور ذاك الزمان ونستغرب منا ونحن نفكر
بهكذا طريقة .. أليس الوهم كان حاضراً معنا ؟ أليس هناك مؤثرات تغير من
قراراتنا وأحكامنا على المواقف والأشخاص والأفكار والأشياء ولما تزول هذه
المؤثرات تتغير الأحكام ؟ أليس الوهم حاضراً وقتها ؟ لا أشك أن البيئة
والتربية والثقافة والتعليم لها دور كبير في صناعة الوهم بعقولنا , وصياغة
الزيف بداخل أدمغتنا , طرائق التفكير وطبخ القرارات واتخاذ المواقف تتشكل
وتتقولب بمؤثرات كثيرة وتؤطر عقولنا العديد من المؤطرات , ولكن الوهم لا
يغيب لابد أن يشارك ولو بشئ بسيط ليضلل الرؤية ويغبش المنظر أمامنا , و
ونرى المنابع متجذرة في عروق العقل بالكثير من الوهم , وكأنني أشبه قنوات
التفكير في الدماغ بالمواسير تنقل الماء , و يتلون بماء يلاقيه داخل هذه
المواسير من رواسب , وكذلك الوهم يلون أفعالنا وكلماتنا ومواقفنا
وتصرفاتنا .. قال لي : والنتيجة ؟ كيف ننعتق من هذا الوهم ونغتسل منه ؟
كيف نمحو وجوده بدواخلنا ونبخره من عقولنا ؟ قلت له بعدو الوهم وبضده .. !
اطرد الوهم بالوعي .. ألا ترى الشعوب يقل الوهم فيها كلما ازداد وعيها ..
الوعي بالحياة .. بالكون .. بحركة التاريخ .. بالنفس البشرية .. الوعي
بالمجتمعات وحراكها وتطورها .. الوعي بالثقافة المحلية والخرافات التي
تنمو فيها ويتغذى عليها الصغار .. فهم القيم والتحرك في الحياة بالسنن
والنواميس التي ركب الخالق الانفس والمجتمعات والحياة البشرية عليها كل
ذلك سبيل للانعتاق من ثعبان الوهم وأخطبوط الزيف الذي ربما التوى في قنوات
عقولنا , وانزوى رابضاً في بعض زواياها وأركانها يدس السم ويلون المخرجات
من هذه العقول ويتسلط في الأفكار ويعملق أو يقزم , يهول أو يهون الأفعال
وردود الأفعال ..